الخميس، 26 جانفي 2012

متعة التحدي (منقول من موقع veecos )



ومن يأب صعود الجبال***يعش أبد الدهر بين الحفر، وقفت أمام هذا البيت من الشعر للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أتأمله ورحت أسأل نفسي هل يمكن أن نتصور أن مشقة صعود الجبل إنما هي في حقيقتها نجاة من ضيق الحفر؟ هل التعب والألم والجراح ونحن نصعد الجبال هي الراحة؟ والبقاء في الحفر والاستسلام لها هي المشقة بعينها؟ لأكون أكثر واقعية...إذا كانت حياتنا ملأى بالحفر -في الحقيقة هي كذلك– هل الحكمة في أن نساير هذا الواقع فنكون كالقائل إذا أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا  أسأت؟ فنكون في هذه الحالة قد رضينا بالحفر واستسلمنا لها..
أم أن الحكمة أن نشمِّر عن ساعد الجد ونسعى لردم الحفر وبالتالي بداية مرحلة صعود الجبال والتي هي مشقة كلها... في الظاهر.. بينما حقيقتها توطين النفس على فعل الخير إذا أحسن الناس، وفعل الخير إذا أساء الناس، لأن الناس متغير لا يمكن أن يثبت بأي حال من الأحوال  لأنها سنة الحياة، بينما فعل الخير هو الثابت الذي أن يبقى ثابتا  وأن لا يتغير مهما تغيرت الظروف...
ولكن ما هو ميزان الراحة؟ وما هو ميزان المشقة؟ وقبل هذا ما هو مفهوم الحفر؟
إن مفهوم الراحة ومفهوم المشقة مفهوم نسبي لأنه يختلف باختلاف الشخصيات ويرجع إلى طبيعة كل إنسان وحالته النفسية؛ فقد يمثل شيء ما راحة للإنسان، بينما لدى غيره هي مشقة.
فقد ينظر إنسان إلى الرياضة مثلا في الصباح الباكر يوم العطل على أنها الراحة، ويرى غيره الذي يميل للاسترخاء يوم العطل أنها مشقة، ونفس الشيء عن صلاة الفجر في المسجد قد يرى البعض فيها مشقة... ويرى الآخر أنها الراحة بعينها...
فما الذي يحدد مفهوم الراحة والمشقة إذن؟


إن مفهوم الراحة والمشقة يتعلق بدائرة الأمن الداخلية لكل إنسان والتي يعيش فيها ويحاول أن لاَّ يخرج منها لأنه سينطلق إلى فضاء الخوف (المجهول)... وهذا الخوف يعبر عنه لحظة ولادته بصرخة البكاء التي يعبِّر بها عن انتقاله من دائرة الأمن في رحم أمه إلى فضاء الخوف (المجهول) وهي الحياة الدنيا، ثم مع الوقت يشكل دائرة الأمن الجديدة الخاصة به وتبدأ بأمه فقط، ثم تتسع لأعضاء العائلة فيرفض الغرباء، ثم تتسع وتتسع فكل هدفه في الحياة هو توفير الأمن لنفسه وتوسيع دائرته، والمولود قبل حاجته للرضاعة هو محتاج للأمن والطمأنينة، ونسجل وقفة هنا: من السنة الأذان والإقامة في أذن المولود تحقيقا لقوله تعالى ﴿...أَلاَ بِذِكْرِ اللّه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ الرعد 28. 
عندما ندرك تأثير دائرة الأمن التي نسعى للعيش في حدودها ندرك لماذا الناس ترفض التغيير، ولماذا تُجابَه الحركات التغييرية بمقاومة شرسة، ولما يستميت الأشخاص في الدفاع عن مكتسباتهم بغض النظر عن مدى صحة أو عدم صلاحيتها...لأنه بكل بساطة هي عناصر أمنهم فإذا فرّطوا فيها فرطوا في أمنهم...

إذن فالإنسان يكتسب مع الوقت مكتسبات جديدة ( نجاح في العمل، أسرة جديدة بعد الزواج، مسكن يأويه مع أهله، منصب اجتماعي أو سلطة ما... وهكذا) وهذه المكتسبات كلها؛ عناصر تدخل في تكوين دائرة أمنه... وأشير هنا ليس الجديد فقط بل حتى القديم... تراث الآباء... عناصر أمن لا يتنازل عنها الإنسان بسهولة...
لذا فدائرة الأمن هي التي تفرض على الإنسان أن يعيش أبد الدهر بين الحفر ويأبى صعود الجبال...والحفر بهذا المعنى لا تحمل صفات السوء وفقط، كالجهل والفقر والفرقة والظلم....بل هي كذلك صفات إيجابية كالغنى والعلم والسلطة والمكتسبات المادية... لأنها إذا وَقَفَت في وجه الخير (وأشدد هنا على هذا المفهوم إذا وقفت في وجه الخير ) تحوَّلت إلى حفر يجب على صاحبها صعود الجبال للتخلص منها.
ولقد استعمل القرآن الكريم هذا الوصف فقال: (...وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا...) آل عمران آية 103 فسمَّى ما كان عليه المهاجرين قبل الإسلام - أيام قريش- من أمن وتجارة رائجة ومركز مرموق بين قبائل العرب شفا حفرة من النار كما سمى ما كان عليه الأنصار من فرقة وتناحر وحروب شفا حفرة من النار.
بهذا المفهوم ما أكثر الحفر في حياتنا اليوم والتي تمنعنا من صعود الجبال بخاصة وأنه اختلط علينا مفهوم الراحة والمشقة، فلم نعد نتبين حقيقتهما ولا موازينهما الصحيحة.
فقد يُقعدنا الجاه والمال والتجارة والأهل والتسابق على متاع الدنيا – حرصا على جمعهم أو خوفا من زوالهم- عن نصرة الخير ونشره، كما يقعدنا الجهل والفرقة والظلم بدعوى الضعف وعدم الاستطاعة... فاستمرار الأوضاع على حالها - في نظرنا - راحة والسعي للتصحيح والتغيير مشقة...فآثرنا الراحة على المشقة ...فطالت ظلمة لَيلِنا واتسعت الهوة بين الواقع والآمال...
فما الحل إذن؟
إن افتتان الإنسان المسلم بدائرة أمنه واختلاط مفاهيم الراحة والمشقة هو الذي أخَّر صحوة أمتنا، فعلينا اليوم:
أولا: تحويل الخروج من الحفر وصعود الجبال إلى تحد إلى متعة، إلى متعة التحدي...
ثانيا: وهو الأهم توسيع دائرة الأمن لتشمل مفاهيم جديدة يجب العمل لإبرازها لأنها ستحمل معها الموازين الحقيقية للراحة والمشقة كرضا الله، والعمل في سبيل الله، والصدق مع الله...
( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) سورة آل عمران آية 104.
اللهم اجعلنا منهم واحشرنا معهم...آمين
نورالدين بن سليمان محرزي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون